في أوكرانيا، انتهت "التحمية" ودقّت "ساعة الحقيقة"، إن جاز التعبير. فمنذ أسابيع، بقي المشهد على الحدود الأوكرانية، على "صخبه"، يراوح مكانه. استنفار وتأهّب وحشد على المستوى العسكري، تقابله تحذيرات غربية بالجملة من "غزو روسي" تنفي موسكو وجود أيّ "نيّة" بالإقدام عليه، بموازاة اتصالات دبلوماسية رفيعة المستوى تحاول "تفادي" الكارثة.
فجأة، تغيّرت كلّ المعطيات ووقع "المحظور". أقدمت روسيا على ما كانت تسخر منه وتعتبره جزءًا من "الدعاية" الغربية "المغرضة والزائفة". دخل الجيش الروسي أوكرانيا، تنفيذًا لـ"أمر" الرئيس فلاديمير بوتين، وبات على "أعتاب" العاصمة كييف. تكرّر "الاستنفار" هذه المرّة من جانب دول الغرب، التي تحصّنت بسلاح "العقوبات" لمواجهة "القوة الروسية".
هكذا، تناوبت دول الغرب على فرض العقوبات على موسكو. قال الرئيس الأميركي جو بايدن إنّها عقوبات "لم يسبق لها مثيل"، واعتبر أنّ بوتين هو من "اختار الحرب وعليه أن يتحمّل المسؤولية". حذا قادة الاتحاد الأوروبي حذوه، ففرضوا عقوبات شملت كلّ القطاعات، بما فيها الطاقة، متوعّدين بالمزيد منها، إذا ما توسّع نطاق "الغزو الروسي" أكثر.
أما موسكو، فتعاملت مع كلّ هذه العقوبات بلا مبالاة ولا اكتراث. قال الرئيس الروسي إنّ موسكو "مضطرة" للقيام بما تقوم به، دفاعًا عن "امنها"، بعدما "سُدّت" كلّ السُبُل الأخرى أمامها. أما البنك المركزي الروسي فكان أوضح، حين قال إنّه كان قد "استعدّ مسبقًا" للعقوبات، ما "أفرغها من مضمونها"، علمًا أنّ اعتقادًا يسود بأنّ العقوبات الاقتصادية "غير مجدية".
وفيما العالم "يحبس أنفاسه" على وقع تطورات الحرب في أوكرانيا، ثمّة علامات استفهام كثيرة تُطرَح، بعضها ربما "استباقي"، فإلى أيّ مدى يمكن أن "يتمدّد" النزاع؟ هل يبدو سيناريو "الحرب الشاملة" الذي بدأ بعض الغرب يحذّر منه، واردًا؟ وأين موقع لبنان الذي "انقسم" على الموقف من الحرب، في هذا الصراع؟ هل يتأثّر، وكيف ذلك؟.
في المبدأ، يبدو واضحًا أنّ كلّ السيناريوهات واردة، وأنّ "الحرب" في أوكرانيا لا تزال في بدايتها، وأنّ الخيارات قد تكون "مفتوحة"، سواء بالنسبة إلى روسيا، أو بالنسبة إلى الغرب، الذي يعتقد كثيرون أنّه لا يمكن أن يبقى "متفرّجًا"، ومكتفيًا بفرض بعض العقوبات التي لا تقدّم ولا تؤخّر، من باب "رفع العتب" ليس إلا، علمًا أنّ الرئيس الأوكراني دعا الدول الغربية صراحةً إلى "دعم" أكثر وضوحًا، بل عقوبات أكثر "قسوة".
ولعلّ ما يغذّي الاعتقاد بأنّ الأوراق قد "تُخلَط" مجدّدًا، مضمون بعض التصريحات التي أحاطت ببدء العمليات العسكرية، فالرئيس الأميركي تحدّث عن "مسعى" من الرئيس الروسي لإعادة إحياء "الاتحاد السوفياتي"، في رسالة قد تكون لها دلالاتها، فيما ذهب مسؤولون غربيون أبعد من ذلك، بالحديث عن "عزلة دولية" أوقعت موسكو نفسها بها، حتى إنّ وزيرة الخارجية البريطانية قالت إنّ روسيا ستصبح "دولة منبوذة".
بالنسبة إلى البعض، فإنّها مؤشّرات تشبه إلى حدّ بعيد أجواء "الحرب الباردة"، لكنّ "الفاتورة" قد تكون باهظة جدًا، وقد بدأت أوكرانيا بدفعها منذ اللحظات الأولى، مع سقوط عشرات الجنود بين قتيل وجريح، فيما أصاب "الذعر" المواطنين، الذين سارعوا إلى "الفرار"، بعضهم داخل أوكرانيا، وبعضهم الآخر خارجها، فيما دقّت الأمم المتحدة "ناقوس الخطر"، وحذر الصليب الأحمر من "حصيلة مخيفة" للضحايا إذا ما استمرّ الوضع على حاله.
لكنّ التداعيات "الأثقل" من كلّ ذلك قد تتعدّى الزاوية "الإنسانية"، لتشمل الوضع الاقتصادي، الذي شهد "اهتزازًا" غير مسبوق في اليومين الماضيين، تجلّى خصوصًا في أسواق النفط، وهو ما يُعتقَد أنّ انعكاساته ستشمل كلّ دول العالم بطبيعة الحال، وقد اختصرت مديرة صندوق النقد الدولي الأمر أيضًا بحديثها عن "خطر اقتصادي كبير" يهدّد العالم بأسره، نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية وما يمكن أن يترتّب عليها.
وسط هذه الصورة السوداوية والمأساوية، ثمّة من يسأل عن "موقع" لبنان في المعادلة، وهو الذي يعاني أساسًا من "انهيار" اقتصادي، ووضع سياسي لا يُحسَد عليه، وهو بالتالي بغنى عن أيّ "أزمات" جديدة قد تستهلك ما بقي لديه من "طاقة" على التحمّل والصمود، فهل "يتأثّر" بالحرب الدائرة في أوكرانيا؟ وكيف ذلك؟.
قد يكون من المبكر لأوانه التوصّل إلى إجابة "حاسمة"، لكنّ ما يمكن الجزم به سلفًا أنّ لبنان، شأنه شأن غيره من دول العالم، الصغيرة منها والكبيرة، لن يكون بمنأى عن التداعيات، الاقتصادية على الأقلّ، بعيدًا عن فرضية "الجزيرة المعزولة" التي يحلو لبعض اللبنانيين استذكارها مع كلّ أزمة إقليمية، علمًا أنّ ارتفاع أسعار النفط، وتسجيلها مستويات "قياسية" قد يؤدي إلى "تعقيد" الأزمة الاقتصادية في لبنان وتفاقمها أكثر.
وثمّة من يضيف إلى هذا العامل بندًا آخر مرتبطًا بعلاقة لبنان الاقتصادية مع أوكرانيا، باعتبار أنّه "يستورد" القمح منها، بنسبة تصل إلى 50 في المئة من حاجاته الاستراتيجية، ما سيهدّد قدرته على "التموين"، ولا سيّما بغياب أيّ خطط "بديلة" مُعدّة ومجهّزة لمواجهة حالات "الطوارئ" كتلك التي يشهدها العالم اليوم، ولو أنّ هناك من يؤكد أنّ لدى لبنان مخزونًا يكفي لنحو شهرين، تكون معهما الصورة قد "تبلورت" بوضوح أكبر.
وبعكس الاقتصاد، فإنّ الوضع في أوكرانيا "البعيدة" لا يفترض أن يترك تداعيات "سياسية" على الواقع اللبناني، إلا أن النقيض حصل، وكأنّ لدى اللبنانيين "نقصًا" في القضايا "الجدلية"، حيث برز الانقسام على الموقف من الحرب، بعد بيان للخارجية أدان "الاجتياح الروسي"، ودعا موسكو إلى "الانسحاب" من أوكرانيا، حيث اعتبره المعسكر "المعادي" للولايات المتحدة "انحيازًا غير محسوب"، وحذروا من أضراره على العلاقات مع روسيا.
في المحصّلة، قد لا يكون لبنان هو "بيت القصيد" في الحرب الأوكرانية، لكنّه "عيّنة" من دول صغيرة كثيرة، قد "تتأثّر" بحرب أوكرانيا من حيث لا تدري ولا تحتسب، فتدفع "الثمن" من اقتصادها "المتهالك" أصلاً. إنّها باختصار "لعبة الأمم"، "لعبة" تصبح معها "الحرب" مجرّد "نزهة" بالنسبة إلى البعض، فيها هي "الخراب والدمار" لكثيرين، بصورة مباشرة أو غير مباشرة!.